لا تنتهى أحداثه وتتنوع ما بين هادئه وعاصفة، وتضرب كل من فيه برغبتهم ماعدا سكانه والمحيطون به، فهم لم يذهبوا الى مكان تواجد الثوار، ولكن الثوار هم الذين جاءوا اليهم، ليتحولوا الى شهود عيان على أحداث قد لايطلع عليها غيرهم).
يجمعون على أن ثورة 25 يناير ميزان العدل والحق الذى كتب الإنقاذ لمصر، ولكنهم فى نفس الوقت يتمنوا لو ان الأمور عادت الى طبيعتها حتى يعودوا هم ايضا الى حياتهم، البعض منهم اضطر الى ترك الشقة التى يسكن فيها، وذهب للعيش فى مكان آخر حتى تنتهى أحداث الميدان، لأن منهم المريض ومنهم الطالب ومنهم من لا يستطيع العيش فى الضوضاء التى لا تنتهى بسبب هتافات الثوار عبر المكبرات الصوتية، والبعض اعتبر نفسه الدرع الحامية لهؤلاء الثوار من أشياء كثيرة وأهمها حرارة الشمس، لذلك فتحوا منازلهم للثوار وجعلوها تحت أقدامهم، يسعون بكل ما يملكون لخدمتهم، فالثلاجات تمتلئ عن آخرها بزجاجات المياه المثلجة، وبعض الأسر أفرغت حجرة فى الشقة لاستقبال المصابين والمرضى من أبناء التحرير، لذلك فهم يعتبرون أنفسهم من المحظوظين، لقرب منازلهم من ميدان الثورة، البعض الآخر وجد الفرصة سانحة لتحقيق الربح من وراء الثورة والثوار.
طالما أنه لا يوجد ضرر على أحد، فقام بتأجير شرفة شقته للقنوات التليفزيونية لوضع كاميراتهم فيها مقابل مبلغ من المال، ويبقى أصحاب المحلات التجارية والشركات الخاسر الوحيد فى أيام الاعتصام.
على الرغم من تأييدهم جميعاً للثورة، ولكن الاعتصامات المتكررة تهددهم بغلق الشركات وتسريح العاملين فيها ، فلا أحد يذهب الى الميدان إلا للاعتصام، كما أن الزبائن تؤجل الشراء خوفاً على أنفسهم وأموالهم، أحياناً كثيرة يتعرضون للسرقة والاقتحام من جانب البلطجية واللصوص الذين يتخللون بين الثوار فى الميدان، لذلك لم يجد البعض أمامه سوى ترك المحلات واستئناف نشاطه فى مكان آخر هروباً من الإيجار الشهرى المرتفع، أما ملاك المحلات ففضلوا أن يستمروا فى العمل ولكن بعد تسريح نصف العمالة، أصحاب محلات البقالة والعاملون فيها يعتبرون أنفسهم من المحظوظين، وخاصة بعد ارتفاع نسبة مبيعاتهم الى مئات الأضعاف، وإن كان الخوف أيضا يلازمهم بأستمرار تحسبا لوقوع مشاجرات مثل التى حدثت من قبل خاصة فى موقعة الجمل، والتى نتج عنها تحطم محلاتهم وإصابة عدد كبير منهم، بالاضافة الى سرقة البضاعة ودهسها تحت أقدام المتشاجرين، لذلك فهم يعيشون أوقاتاً وظروفاً استثنائية، لا يعلمون القادم ولكنهم يستعدون له بقدر المتاح لديهم.
«ناصر البرنس» مندوب شركة سياحة جلس أمام باب الشركة على كرسى من الخشب ووضع يده على وجهه، ينظر الى ميدان التحرير بطريقة لا يفهم منها ما يدور فى ذهنه.. ذهبت إليه وسألته عن حركة العمل والبيع والشراء فقال : الأزمة ليست فى العمل لأن الحركه لم تتغير وتسير بنفس المقدار، ولكن المشكلة فى الثوار والهتافات التى تغيرت عن ذى قبل، فهؤلاء ليسوا ثوار 25 يناير الذين رأيتهم بعينى وتحسست منهم الأدب والأخلاق العالية، فطوال أيام الثوره الثماني عشرة لم أسمع هذه البذاءات والألفاظ النائية، ولم أر هذه الوجوه الغريبة التى لم نتعود عليها هنا فى الميدان، سألته : الى هذه الدرجة تشعر بالاختلاف ؟ فرد على بصوت عالِ وقال إنه يجلس هنا فى الميدان منذ مساء يوم 24 يناير لحماية الشركة، ثم تركها وانصرف فى يد الثوار الأمناء الذين تنم وجوههم عن الأمانة.
الوضع عند كل من «مصطفى رشاد» و «محمود صبحى» صاحبي كشكين لبيع الشنط يختلف كثيرا عن سابقهما، فهما حتى الساعة الثالثة عصرا لم يكونا قد ( استفتحوا )، ووصفا حركة البيع والشراء بال ( معدومة ) نظرا لتوقف مرور السيارات من أمامهم، بالإضافة الى خشية الزبائن من النزول الى منطقة الميدان وانصرافهم الى أى سوق آخر، وخاصة أن البضاعة التى يعملون فيها متوافرة فى كل مكان ، وعلى الرغم من ذلك يرفضون انصراف المعتصمين لأنهم على حق، وأن المسئولين تلاعبوا بهم، فعلى مدار 7 شهور لم يحدث شيء من الوعود الكثيرة التى حصلوا عليها.
أشترك « يسرى عبدالحميد « صاحب كشك الشنط المجاور فى الحديث، وعرض شكواه علينا من نقص معدل البيع بنسبة لا تقل عن 50 % منذ اندلاع الثورة، بالإضافة الى توقفها تماما فى أيام الأعتصامات، ناهيك عن الإشاعات التى لا تنتهى عن وجود قنابل ومفرقعات فى الميدان، الأمر الذى يثير قلق وخوف الزبائن والباعة على حد سواء، كل ذلك ومالك المحل لا يقبل بتأخر الإيجار ولو ليوم واحد.
والغريب أن يشتكو «محمد عبدالملك» صاحب محل للمأكولات يطل على الميدان مباشرة، فعلى الرغم من الأعداد الغفيره التى تملأ الميدان إلا أن حركة
البيع شبه متوقفة، سألته عن السبب فقال: المعتصمون يأتوا بالطعام من خارج الميدان، والزبائن العادية تفضل تناوله فى أى مكان آخر بعيداً عن ( دوشة ) الميدان وخطورته، وإذا كان هذا هو حال أصحاب المحلات والشركات التجارية، فإن وضع الأسر التى تسكن المنازل والشقق المحيطة بالميدان قد اتسم بالاختلاف والتنوع أيضاً، وان اشتركوا جميعاً فى حالة الريبة التى بدت على وجوههم أثناء فتح باب منازلهم لنا، حيث تحفظ البعض وبادلنا الحديث وهو داخل الشقة، والبعض الآخر خرج الينا وتحدث معنيه ولكن عيناة كانت لا تتوقف عن النظر يمينا ويسارا تحسبا لوقوع أى شيء، والبعض الثالث سارع بأستقبالنا وعرضعلينا الدخول الى داخل الشقة للحصول على الخدمة التى صعدنا من أجلها على اعتبار أننا من ثوار التحرير.
« الحاج عبدالمنعم» رجل مسن يتعدى عمره العقد السابع، كان من هؤلاء الذين قابلونا بترحاب شديد على اعتبار أننا من ثوار الميدان، وعلى الرغم من أننى أخبرته بحقيقة هويتى الشخصية، إلا أن قدر ترحابه لم ينقص ؛ لم ينتظر حتى أوجه اليه سؤالى وبادرنى بالحديث عن حسن الحظ الذى حالفه بسبب طول عمره حتى رأى ميدان التحرير بهذه الصورة المشرفة، والتى أنهت عصر الاحتلال المباركى، سألته عن مدى تأثره بالأحداث فى الميدان، فرد على بطريقة عفوية لخصت كل ما يدور فى ذهنه ( واحنا نطول ).
أما الدكتور « سيد السعدنى « والذى يمتلك عيادة طبية فى إحدى العمارات القريبة من الميدان فيرى أن ما يحدث هو ( وقف حال ) وأنه يجب على الثوار إعطاء الفرصة للمسئولين للعبور بهذه المرحلة الحرجة، حاولت أن أرسم علامات الدهشة على وجهه وقلت له : كنت أنتظر منك أن تكون عونا لهؤلاء المعتصمين وأن تكون فى خدمتهم، فأكد لى أنه لم يكن يتأخر عن أى منهم من ذى قبل عندما كان يخرج الثوار الى الميدان بأهداف شرعية، وكانوا يحاولون توصيل أصواتهم الى المسئولين بطريقة وصفها بأنها أفضل مما يحدث الآن، حاولت الاستفسار منه عما يحدث فطلب منى النزول وسط المعتصمين لتعرف عليها بنفسى.
وبطريقة تمتلئ بالخوف والقلق الشديدين فتحت لنا سيدة شابة تسمى «أميمة الخيام» تبدو فى العقد الرابع من عمرها، حاولت طمأنتها وأخبرتها بأننى لن آخذ من وقتها الكثير، وبسرعة توجهت إليها بسؤالى عن مدى تأثرها بالاعتصام فقالت : إن الخوف والرعب يسكن شقتها طوال فترة الاعتصام بسبب إشاعات السرقات والقتل التى لا تنتهى، كما أن أفرا أسرتهم يضطرون الى تغيير أسلوب معيشتهم، وأبدت استياءها الشديد من استخدام المعتصمين لمكبرات الصوت طوال اليوم دون مراعاة لحرمة البيوت المحيطة لهم وحرمة سكانها المرضى والطلاب ومن فى حاجة الى الراحة بعد عودته من عمله.
أما الظاهرة الأوسع انتشاراً داخل العمارات السكنية المحيطة بالميدان فكانت وضع الأقفال الحديدية على أبواب عدد كبير منها ، بالإضافة الى تركيب بوابات حديدية على معظمها، حاولت الاستفسار من أحد البوابين فقال : إن عدداً منهم ذهب الى قضاء مصيفه السنوى وخشى عليها من تجدد الاعتصامات، لذلك حاول تأمينها، وبعضهم مازال موجوداً فيها ولكنه فعل ذلك لحمايتها أثناء وجودهم بخارجها.