في ليلة من الليالي المقمرة.
جلست على شرفة مطلة على حديقة صغيرة تزهو بجمالها ورونقها .
وتداعب شجرة الياسمين سورها العالي فتغفوا بأغصانها لتمتد فوقه وتتدلى بغنجها ودلالها.وكأنها تستمتع بتلك الأمسية الجميلة وترقب ببراعمها أسراب المارة من هناك وأحاديثهم الخافتة وعيونهم المسترسلة وهي تمسح عن جبينهم سويعات النهار وشمسه الحارقة.وتزيح عن كاهلهم بعض ما علق بهم من تعب.
وتمنحهم من أريجها عبقا يأخذ بأيديهم الى الوراء يستعيدون ذكرياتهم وأيامهم البعيدة لتدنوا منهم في حلة بهية تسر بها خاطرهم.

مثلَ المُحِبِّ تَرَقرَقَتْ عَبـــَراتُه……والشَّوقُ يُذكي في حَشاه ضِراما
فغدَتْ عُيونُ النَّورِ فيه كأنَّهــــا……مُقَلٌ تَرى طِيبَ الغُموضِ حَراما
أَهْدى الحَيا للوَرْدِ في شـَجَراتِه……خَجَلاً وزادَ الياسَـــــمينَ غَراما

وعلى مقربة منها تفتحت وردة تباهت بلونها الأخاذ ورونقها الجذاب ورائحتها الذكية وهي تطوف بالمكان تعتليها نسمات عليلة تدخل الى القلب فتنعشه وتهز فيه جدران ذكرياته فتتقاطر عليه فينتفض مثل عصفور هم بالرحيل لكنه عدل عن رأيه وأشجاه المكان فحط رحاله فيه.

أما القرنفل فقد بدى خجلا ممن حوله تلهبه نظرات الناس إليه فينكمش على نفسه ويدنوا من أوراقه فيتمتم لها ببعض كلماته ويبثها حديث الروح وحديث الأنس وحديث النفس..فتزهو فتلتف حوله وتتماسك ويستأسر هو بنضرتها فيخرج ببرعمه ذي اللون الجميل فيعطي ما حوله عبيرا يتغلغل كما الليل بسواده وأجنحته التي يفردها ونجومه الساهرة التي تذهب وتجيء لتترجم تلك العتمة وتمنحها بعض الضياء بلمسات مبدعها وخالقها..

على العشبِ أبصرتُ الحبيبةَ صدفةً……وفي يدِها البيضاء زهرُ القرُنفُل
فقالت وقد مالت إلـــــــــيَّ ببســـمَةٍ……هو الزهرُ فانشُق وانتعِش وتعلّل
فـقـلتُ لـهـا إن الـقـرُنـفُـلَ زهــــرَةٌ……تلوحُ علـــى رأسِ الملاك المُكلَّل

أما القمر وما أدراك ما القمر.فهو حديث آخر ليس فيه حروف لكنه يتغنى بسحرها وحفيف همساتها ولمساتها.
ويتدلى الناظر إليه بروح التلاقي والفراق والحزن والفرح والهم وعليل الحكاية من بدايتهاوحتى الخاتمة.فليلملم أطرافها ويسكن قبتها ويلبس بعضها لتمتزج في جوانبه مثل شجرة يانعة بظلالها الوارفة .

إنه يصطاد في سكونه وهدوءه أناسا أرادوه جليسا وسألوه حديثا فبثوه همومهم وأزاحوا ستارا بينه وبينهم فتباعدت النظرات وتحركت الشفاه.فلا شيء تسمعه حينها إلا همس شجيرات بعيدة تشق ذاك السكون وخرير مياه جدول يعطي للحياة معناها ويمنحها نضرتها وبهاءها.

أيا قمراً فـــــــــــــي وجنتيـه نعيمُ……وبين ضلوعي من هواه جحيمُ
إلى كم أُقاسي منك روعاً وقسـوةً……وصَرماً وســــقماً إن ذا لعظيمُ
وأنّي لأنهـــــي النفس عـنك تجلُّداً……وأزعمَ أنّي بالســــــــلوِّ زعيمُ
فأن خطرت بالقلب ذكراك خطرةً……ظـلِلتُ بـلا لُـبٍّ إلـيكَ أهيــــــمُ

فلا طاف بي شوق ولا حدى…….في هجره من بين هم له وترحالا
تراه والأسى يطوف بنفســه…….إذ غـاب له قمــــر وتبدلت أحوالا

اِســـــتَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً……بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِــــــــــــي……صَـــفوَ الحَياةِ وَأَنّـــي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىـً……وَأَدمُعِي مُســــــــتَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
لا أَكُذبث اللَهَ ثوبُ الصَـبرِ مُنخَرقٌ……عَنّـــــي بِفُرقَتِهِ لَكِنـــــي أَرَقِّعُهُ
بِاللَهِ يا مَنزِلَ العَيشِ الَّذي دَرَســت……آثـارُهُ وَعَـفَـت مُـذ بِـنـتُ أَربُعـُهُ
هَــل الـزَمـانُ مَـعـِيـدُ فِـيـكَ لَـــذَّتُنا……أَم اللَيالِــــي الَّتي أَمضَتهُ تُرجِعُهُ

هذه ليلة من ألف ليلة وليلة.وكأنها نسجت حكايتها من قصة تباعدت أطرافها فجمعتها سوانح ذكريات بعيدة بعد الليل وسواده.
وتجاذبت النفس حينها أطراف الحديث وغاب عنها جليس الروح وسامرها وحبيبها فناب عنه (ياسمين وقرنفل وقمر).