تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
إن النظام الأخلاقي في الإسلام يعتمد اعتماداً كلياً على تصور الإسلام
للكون والوجود ، ويعتمد هذا التصور على الإنسان كجزء من هذا الوجود .
فالغاية البعيدة من مجهودات الإنسان ومساعيه في الدنيا هي ابتغاء رضاء الله
سبحانه وتعالى القائل: ) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ( . ويقول
المصطفى r : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) . وتتجسد العدالة في الإسلام
من خلال مبدأ المساواة ، فالناس جميعاً سواسية كأسنان المشط ، وإن مقياس
التفاضل مرهون بمقدار التزامهم بأوامر الخالق التي تمثل الخصائص الرفيعة
لمكارم الأخلاق . فلا اعتبار في تقويم الإنسان للونه أو لغته أو جنسه أو
بلده أو حالته الاجتماعية
أو الاقتصادية أو السياسية . قال الله تعالى : ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( . وقال r: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم
ولا ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) .
ولقد سادت فلسفة العدل في الإسلام على كل أشكال الحكم التي تعاقبـت بعـد
الرسـول r . يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما ولي الخلافة : (أيها
الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت
فقوموني . الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق
له ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، لا يدع قوم الجهاد في سبيل
الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله
بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ).
أي إن مسئولية الحاكم هي نشر مبادئ العدالة بين أفراد المجتمع . وفي نفس
الوقت فإن مسئولية المحكوم هي تثبيت هذه المبادئ والترحيب بها وتطبيقها .
ولا شك فإن المسئولية الإنسانية في الإسلام ، إنما تتجسد من خلال فكرة
عمارة الأرض ، وهو التكليف الـسامي الـذي كـلف الله بـه بني الإنسان. قال
تعالى ) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي
مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ( . وقوله
سبحانه وتعالى : ) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ
مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً( .
ومعنى ذلك أن الإنسان ربط بين الأخلاق والمسئولية ، لنشر العدل والمساواة
بين أفراد المجتمع.
ومن أهم الأسس التي تقوم عليها الأخلاق في الإسلام هي :
أ) الأساس الإعتقادي :
ويقوم على ثلاثة أركان : الإيمان بوجود الله ، والإيمان بأن الحق عز شأنه
خلق الإنسان ، وعرفه بنفسه وبين له طريق الخير وطريق الشر من خلال الرسل
عليهم الصلاة والسلام ، والإيمان بالحياة الأخرى وبأنه يحاسب فيها على ما
قدم من خير أو شر . والإيمان أساس مهم من أسس الأخلاق ، وهناك ارتباط وثيق
بين الإيمان وبين السلوك الأخلاقي .
ب) الأساس الواقعي العلمي :
أما بالنسبة للأساس الواقعي، فالأخلاق تحافظ على حياة الفرد ، وتجعلها
مستمرة دون مواجهة عثرات . والأخلاق لا تتعارض مع الطبيعة ولا تنافيها بل
تتناسق وتتكامل معها، والقوانين الأخلاقية واقعية ثابتة مستمرة كقوانين
الطبيعة .
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الإسلام وضع للإنسان إطاراً أخلاقياً على
ضوء معرفته بالطبيعة الإنسانية ، وأنها مكونة من روح ومادة ، وأن حياة
الإنسان السعيدة لا تتحقق إلا بتلبية حاجاته المادية والروحية على حد سواء ،
حتى لا يكون أسيراً للمادة ولنوازع الطبيعة البشرية .
وأما بالنسبة للأساس العلمي للأخلاقيات ، فإن الإسلام قد حدد للإنسان
إطاراً أخلاقياً على أساس تصوره للكون والحقائق الموجودة فيه ، فهو يربي
المسلم تربية عقلية تستمد أهدافها من قيم العلم والمعرفة والحق , وتهدف إلى
توجيه طاقات الإنسان إلى البحث العلمي والسعي وراء الحقيقة.
ج) الالتزام :
يعتبر الالتزام من أهم الأسس التي يقوم عليها النظام الأخلاقي في الإسلام ،
والالتزام معناه التعهد من الإنسان في مواجهة البشرية كلها ، وذلك بناء
على كون الإنسان مكلفاً في هذه الحياة ، وله أمانة ورسالة ، وله حرية
الإرادة التي تحكم عمله ، وتكون مناط الجزاء ، لذا كان الالتزام الأخلاقي
أبرز معالم المسئولية الفردية .
ومن مستلزمات الالتزام حرص المسلم على طيب مطعمه ومشربه وتغذية نفسه ومن
يعول بالطيب الحلال . فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: ( إن الله
تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ) ، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به
المرسلين ، فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ثم
ذكر الرجل يطـيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه
حرام ، ومـشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستـجاب لذلك ؟ )
.
وروى عكرمة بن عمار : حدثنا الأصفر قال : قيل لسعد بن أبي وقاص : تستجاب
دعوتك من بين أصحاب رسول الله r قال : ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم
من أين مجيئها ومن أين خرجت؟ . وعن وهب بن منبه قال : من سره أن يستجيب
الله دعوته فليطيب طعمته . وعن يوسف بن أسباط قال : بلغنا أن دعاء العبد
يحبس عن السموات بسوء المطعم ؟ .
د) المسئولية :
لا يمكن أن يكون المرء صاحب خلق فاضل ما لم يتكون عنده شعور بالمسئولية ،
لذا كان الشعور بالمسئولية الأخلاقية أساساً من أسس الأخلاق. وتعني
المسئولية هنا بأنها إقرار المرء بما يصدر عنه من أفعال وباستعداده لتحمل
نتائج التزاماته وقراراته واختياراته العملية من الناحية الإيجابية
والسلبية أمام الله ثم أمام ضميره وأمام المجتمع . ومن الشروط الأساسية
للمسئولية الطابع الشخصي ( أو المسئولية الفردية ) بمعنى أن الفرد يتحمل
مسئولية عمله. والمسئولية الفردية لها مجالان : الداخلي والخارجي . أما
المجال الداخلي ، فهو مسئولية الفرد عن قصده وإرادته ونواياه قال تعالى : )
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ
اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( . وأما المجال الخارجي ، فهو السلوك المحسوس
من قول أو فعل شريطة أن يحدث ذلك عن قصد واختيار : ) لا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ (.
ومما يجب أن نؤكد عليه أن المسئولية الفردية لا تلغي المسئولية الجماعية ،
بل تكاد تندرج فيها لأن الجماعة هي مجموعة أفراد ، وهي مسئولة عن انحرافات
سلوكيات الأفراد وعن تصحيحها بجميع الوسائل المـشروعـة. قال r : ( لتأمرن
بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ثم
تدعون فلا يستجاب لكم ) .
ولا شك أن الشريعة الإسلامية دعمت التزام الأفراد بالمبادئ الأخلاقية التي
حددها الإسلام من خلال تقريرها لمجموعة من الزواجر والعقوبات الأخروية
والدنيوية لمن يخرج عن هذه المبادئ .