لقد قرر القرآن الكريم أن الأرض كروية في أكثر من موضع وأعطانا أكثر من دليل. وقد نقل الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى- عن الضحاك في معنى التكوير: أي يلقي هذا وهذا على هذا، قال وهذا على معنى التكوير في اللغة وهو طرح الشيء بعضه على بعض. وقال الفخر الرازي -رحمه الله تعالى- في تفسيره: "ثبت بالدلائل أن الأرض كرة، فكيف يمكن المكابرة فيه؟!"، كما قال ابن حزم -رحمه الله تعالى-: "إن أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله تعالى عنهم لم ينكروا تكوير الأرض ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة". وقد قرر ذلك أيضاً الإمام الألوسي وابن القيم وابن تيمية رحمهم الله.
مقدمة تاريخية:
لقد قال الأقدمون بكروية الأرض، وعلى رأسهم علماء اليونان كـ "إيراتوستين" (276 ق.م.) و"أرسطو" (384 ق.م.) و"فيتاغورس" (569 ق.م.). فقد تمكن "إيراتوستين" من قياس تقريبي لمحيط الأرض الكروي واعتقد نتيجة ذلك بأن هناك أرضاً مسكونة تقابل أرضه، وقد وصف العلماء المسلمون الأرض بأنها كروية كما جاء في كتاب "المقدسي" (375 هـ) (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) قوله: "فأما الأرض فإنها كالكرة موضوعة في جوف الفلك، كالمحّة في جوف البيضة". وقال قبله مثل ذلك أيضاً ابن خرداذية (232 هـ) في كتابه (المسالك والممالك)، وقال بذلك الاصطخري والبيروني والإدريسي والحَمْوي وغيرهم كثير.
أما في أوروبا فلم يعتقد الأوروبيون بفكرة كروية الأرض، وكانوا يرون بأن نهاية البحر الذي يلي القارة الأوروبية هو نهاية لامتداد الأرض، إلا أن بعضاً من علماءهم وبعد اطلاعهم على علوم السابقين من المسلمين وغيرهم، رجحت عندهم فكرة كروية الأرض، وتكرس هذا الاعتقاد بعد قيام "كولومبوس" (1451 م) برحلته وقيام "ماجلان" (1480 م) بدورته حول الأرض وكان ذلك بين عام (1518 و 1522 م).
ثم جاء الفيزيائي "اسحق نيوتن" ليقول بأن الأرض شبه كروية، وأثبت ذلك حسابياً حيث وجد بعد تجارب فيزيائية قام بها على البندول أن قطر الأرض عند خط الاستواء يزيد بنسبة (231/1) عن قطرها بين القطبين الشمالي والجنوبي.
ثم جاء القرن العشرون واستطاعت ثورة علم الفلك والمركبات الفضائية في منتصف هذا القرن من الإجابة عن معظم التساؤلات حول كروية الأرض وموقعها في هذا الكون، وأصبح معلوماً أن الأرض شبه كروية تدور حول نفسها ونتيجة ذلك يحصل تتابع الليل والنهار على وجه الأرض.
حقائق علمية:
1- سبقت الرحلات البحرية التي قام بها "كولومبوس" و"ماجلان" بين عام (1519 م) و (1521 م) صور الأقمار الاصطناعية في تحديد كروية الأرض.
2- أظهرت الصـور التي التقطتها الأقمار الصناعية منذ عام (1957 م) أن الأرض شبه كروية مفلطحة عند القطبين (Oblate Spheroid).
3- يؤدي دوران الكرة الأرضية حول مركزها إلى تقلب وتعاقب الليل والنهار عليها.
التفسير العلمي:
لم يشاهد الإنسان الأرض في شكلها الكروي وهي تسبح في الفضاء إلا عندما أطلق العلماء الروس القمر الاصطناعي الأول "سبوتنيك" عام 1957م، حيث استطاعوا الحصول على صور كاملة لكوكب الأرض بواسطة آلات التصوير المرتبطة بالقمر الاصطناعي. وكما ورد في الموسوعة البريطانية أن الأرض شبه كروية مفلطحة عند القطبين (Oblate Spheroid) إذ أن الأرض تنتفخ بصورة بطيئة جداً عند خط الاستواء وتتسطح في منطقة القطبين بفعل دورانها حول نفسها، فطول شعاع الأرض عند خط الاستواء يساوي (6378 كلم) وشعاعها بين القطبين يساوي (6357 كلم)، والفارق الضئيل بين شعاعي الأرض (21 كلم) جعلها تبدو كروية الشكل.
لكن علماء التفسير استنبطوا كروية الأرض من آيات القرآن الكريم حيث قال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وفي قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}، ومن هاتين الآيتين يُعرف أن الليل والنهار يجريان في تتابع لا يسبق أحدهما الآخر، وعليه فإما أن يكون التتابع في خط مستقيم أو في خط دائري، ولكن لو كان التتابع في خط مستقيم على وجه الأرض فإنه لن يحدث إلا ليل واحد أو نهار واحد، إذن فلا بد أن يكون على شكل دائري. وقد أخبر تعالى بأن الليل لا يسبق النهار، وهذا المعنى القرآني لا يتحقق إلا إذا كان الليل والنهار يوجدان معاً في وقت واحد على الأرض، وهذا لا يحدث إلا إذا كانت الأرض كروية وكذلك قال علماء التفسير في قوله تعالى: : {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} بأن كور العمامة هو إدارتها واستدارتها حول الرأس، والتكوير لا يكون إلا على سطح كروي والتكوير في اللغة هو طرح الشيء بعضه على بعض، ولعل هذا يوضح الحكمة في قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} حيث لم يقل يكور الليل ثم يكور النهار، فإن الليل والنهار موجودان معاً على الأرض الكروية نصفها ليل ونصفها نهار، فالليل والنهار يكوران على بعضهما على سطح كروي هو الأرض.
وفي قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} إشارة أخرى إلى أن الليل والنهار يقلبان والتقليب يعني الدورة بشكل دائري فلزم أن تكون الأرض كروية.
ومما يؤكد كل ذلك قول الله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} فالآيتان تدلان على كروية الأرض، وكيف ذلك؟
· أولاً: إنه سبحانه وتعالى قرن المشرق بالمغرب أو المشارق بالمغارب مباشرة ولم يقل (رب المشرق ورب المغرب) أو (رب المشارق ورب المغارب) وذلك لأن الشروق والغروب يتمان في وقت واحد وهذا لا يمكن أن يكون إلا على سطح كروي.
· ثانياً: تشير الآية الثانية إلى أن كل بلد له مشرق ومغرب ولا يوجد مشرق واحد ومغرب واحد لأية دولة في العالم وإنما هي مشارق ومغارب وهذا يطابق تماماً مع ما اكتشفه علم الفلك الحديث، حيث وجد العلماء أن في كل جزء من الثانية نجد مشرقاً تشرق فيه الشمس على مدينة ما وتغيب عن أخرى، حيث أن زاوية الشروق تتغير من موقع لآخر وكذلك زاوية الغروب، وهذا ما يدل على كروية الأرض.
وهنا لا بد لنا من تسليط الضوء على أمر مهم، وهو قول الله تعالى في الآيات التالية: {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} وقوله تعالى: {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}، و {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْدًا} و{ وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} و {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا} و {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} و {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطًا} و {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا}، التي قد يعترض أحد ما أن المعاني المستفادة من هذه الآيات لا تدل على معنى الكروية وأن هناك تعارض في آيات القرآن.
إن هذه المعاني لا تناقض دعوى أن الأرض كروية، بل إنها تشير بوضوح جلي إلى ثبوتها، فقد نص أئمة التفسير على أنه لا منافاة بين الآيات الآنفة الذكر وما هو ثابت في قضية كروية الأرض.
قال الإمام فخر الدين الرازي (606 هـ) -رحمه الله تعالى- مجيباً على الاعتراض بنحو قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ} [الرعد: 3]: "الأرض جسم عظيم، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كأن كل قطعة منها تشاهد كالسطح". (التفسير الكبير 19/3 و 170) وقال في تفسير قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْدًا} [طه: 53]: "المراد من كون الأرض مهداً أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع". (22/68).
وقال العلامة القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر الشهير بالبيضاوي (685 هـ) –رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا}: "أي مهيّأة لأن يقعدوا ويناموا عليها، كالفراش المبسوط. وذلك لا يستدعي كونها مسطحة، لأن كروية شكلها مع عظم حجمها لا يأبى الافتراش عليها". من (أنوار التنزيل 1/16). وقال الإمام الأصولي أحمد بن جُزّيّ الكلْبي (741 هـ) –رحمه الله تعالى- مبيناً عدم المنافات بين المد والتكوير: "وقد يترتب لفظ البسط والمد مع التكوير، لأن كل قطعة من الأرض ممدودة على حدتها وإنما التكوير لجملة الأرض" من (التسهل لعلوم التنزيل 2/130). وقال العلامة محمد بن محمد المولى أبو السعود العمادي (982 هـ) –رحمه الله تعالى- موضحاً أن الفراش لا ينافي التكوير: "وليس من ضرورة ذلك –أي: وصف الأرض بالفراش- كونها مسطحاً حقيقياً، فإن كرية شكلها مع عظم جرمها مصطحة لافتراشها" من (إرشاد العقل السليم 1/61).
وقال العلامة شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي (1270 هـ) –رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]: "ولا ينافي كرويتها كونها فراشاً، لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه كما لا يخفى" من (روح المعاني 187/1) ومثله في (25/67). وقال في تفسير قوله تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}: "المراد بسطها وتوسعتها ليحصل بها الانتفاع لمن حلّها ولا يلزم من ذلك نفي كرويتها، لما أن الكرة العظيمة لعظمتها ترى كالسطح المستوي" (14/28) ومثله في (53/17) و (176/26).
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19]: "وليس فيه دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كرية، لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحاً" (76/29).
وقال –أيضاً- في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6]: "لا دلالة في الآية على ما ينافي كريتها كما هو المشهور من عدة مذاهب" (6/30).
ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله في شرحه: "إن الإنسان يرى الأرض مبسوطة أمامه سواء أكان في القطب الشمالي أم في القطب الجنوبي أم في المنطقة الاستوائية، وهذا لا يمكن أن يحدث بهذه الصورة إلا إذا كانت الأرض كروية، فلو أن الأرض كانت غير ذلك: مربعة أو مثلثة أو أي شكل هندسي آخر، كان لا بد للإنسان أن يشاهد حواف الأرض عند أطرافها".
والذي نستخلصه من هذا كله أن الله قد جعل لنا الأرض ممهدة مبسوطة ليقوم العباد بأعمالهم وأمور دنياهم، وهذا من رحمة الله بعباده فلم يجعلها كلها ودياناً أو كلها جبالاً وعرة وإنما ذللها لهم وجعلها مهداً وفراشاً وجعل فيها مساحات ممدودة نعمة منه سبحانه وتعالى، أما الأرض بجملتها فهي شبه كروية الشكل يكور عليها الليل والنهار ويتقلبان في وقت واحد.
لقد سبق القرآن الكريم العلم الحديث في تحديد شكل الأرض، هذا القرآن الذي نزل على قوم لم يعرفوا شيئاً عن الفلك ولا الهندسة، بل كانوا بدو رُحّل، فصدق الله العظيم القائل: {وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها}.
مراجع علمية:
ذكرت الموسوعة البريطانية:
"أن الكوكب الأكبر الخامس من المجموعة الشمسية، الأرض لها محيط استوائي طوله 40.076 كلم (424.902 ميل) وشعاع استوائي طوله 6.378 كلم (3.963 ميل) ولها شعاع قطبي طوله 6.357 كلم (3.950 ميل) وشعاعها الوسطي بطول 6.371 كلم (3.960 ميل)".
ثم ذكرت "أن القوة الطاردة المركزية لدوران الأرض تجعل الكوكب منتفخاً عند خط الاستواء، وبسبب هذا يصبح شكل الأرض شبه كروية مفلطحة، وتظهر أكثر تسطحاً عند القطبين منه عند خط الاستواء".
وجه الإعجاز:
وجه الإعجاز في الآيات القرآنية الكريمة هو دلالة الألفاظ: "ولا الليل سابق النهار"، "المشارق والمغارب"، "يقلب"، "يكوّر"، "دحاها" لشكل الأرض الشبه الكروي المفلطح، وهو ما كشفت عنه المشاهدة العينية لكروية الأرض من الفضاء الخارجي.