فـي انتظـــارِ الأمــــل..
قصــة قصـيـرة
دلفتْ إلى غـرفـةِ المكتبِ حيثُ ينّكبُ على كتابةِ بعضَ الأوراق، لـمــحَ طلعتَها، وقفتْ أمامه وهي تقولُ له بأن العشــاءَ جــاهــز.. رأى الحـزنَ يُطلُ من عِينيها الجميلتين، والدموعُ تتأرجحُ فيما بينهما.
بــادرها بحنـــان:
-هل هناكَ شيءٌ أحــزنَكِ؟
- لا شيء.
- الحزنُ يُطلُ من عِينيكِ.!!
أجابتْ بحـــدة:
-قلتُ لكَ لا شيء..
وأردفت :
- العشاء سيبرد...
- هيا بنا إذن..
نهضََ من كرسيه بتثاقل، ووضعَ يـــدُه على كتفها وهما يغادران الغرفة إلى سفرةِ الطعام..
رفعَ اللقمة الأولى إلى فيها، أشاحت بوجهها ثم عادت لتلتقي عيناها بعينيه اللتين تشعان بالحب والحنان، وكفه ما زالت تمتد باللقمة، لم يتكلما، فتحت فاها لتأكل اللقمة، وتحاول أن تمسك بيده لتقبلها، سحب يده بسرعة وهو يداعبها:
- أصابعي ليست للأكل، طعمها لن يكون لذيذًا..
ارتسمت ابتسامة على ثغرها، وبدأت تقاسيم وجهها بالانشراح، ومدت يدها إلى الطعام لتجهز له لقمة، وتمد يدها إلى فيه، لم يمهلها حين أطبق بفيه على اللقمة وعلى أصابعها الـرقيقة، لتسحبَ يدها وهما يغالبان نوبةً من الضحــكِ..
انتهيا من طعامهما ورفعا سفــرةَ الطعام معًا وهما يمضيان إلى المطبخ لتنظيفِ الأطباقِ، وإعداد قليلٍ من القهوة التي تخصصَ هو فـي تجهيزها، لـمـحــتْ كميةَ السكــرِ كبيـــرة فداعبته بقولها:
- دائمًا ما تغافلني وتضعُ كميةً كبيرة من السكر..
- إني أحبه...
- لكنه سيضرُ بصحتكِ...
- ما دمتُ بجانبكِ فلن يضرني شيء...
- دائمًا تغلبني بمنطقكَ المعسول.!!
- هل أنتِ سعيدة معي ..؟!!
- كل السعادة..!!
- أمتأكدة مما تقولين..؟!!
- هل تشك في ذلك..؟!!
- بالطبع لا،، ولكن...!!
التفتت إليه باستغراب وهي تــــردد:
- ولكن ماذا....؟!
- أحسُ بأني مقصــرٌ فـي حقـكِ..
اندفعت إليه، وارتمت على صدره وهي تبكي وتردد:
- أنتَ مقصرٌ في حقي ..!!!
ألم تمنحني السعادة والحب ؟!!
ألم تنشر فوقي ظِــلالَ الحــنــان ...؟!!
ألم تمنحني كل شيء...!!
وأنا لم أمنحكَ ولو طفلاً واحدًا يدخل السعادة إلى قلبكِ.. أنا المقصرة بل المذنبة ..
هدأ من روعها وكفكف دموعها، وهو يذكرها:
- لا تقولي هذا الكلام، هذا قضاء الله سبحانه، الحمد لله على كل شيء، ولا يـــد لكِ فـي ذلك، ولا ذنب....!!
أهذا الذي يحزنكِ؟!
أرجوكِ لا تفكري في هذا الموضوع..
لا تعكري صفو هذه الليلة بالدموع..
أنا أكره البكاء .. أكــره الدموع ولو كانت دموع الفرح..!!
أغسلي وجهكِ وتعالي نتناول القهوة ..
هيا .. لن أدعكِ تفسدين هذه الليلة بالدموع..
انفلتت من بين يديه لتكمل شحنة بكائها فـي غرفتها ..
جهزَ القهوة ومضى إلى غرفة المكتب ، صب القهوة وجلس يـتأملُ الفنجانَ وذاكرته تستعر:
ستةَ أعوام مرت من على زواجنا، ولم نرزق بأطفال ، كل الفحوصات التي أجريناها لا توضح سببًا معينًا لعدم الإنجاب كلانا لائقٌ طبيًا ، فما ذنبها ...
هذا قضاء الله وقدره والحمد لله على ذلك...
ناداها بصوته الحنون :
- القهوة ستبرد، ألا تحبين القهوة؟!! أم لا تحبين ارتشافها معي؟!
مسحتْ وجهها وهي تدلفُ إلى الغرفة ، شملها بعينيه، وقد تلألأت بينهما دمعتان:
- لماذا تعذبين نفسكِ؟!!
- أعذرني غصبًا عني فعلتُ هذا..
- هل كلمكَ أحدٌ اليوم، أو أساء إليكِ؟!!
- ومتى سلمت منهم..!!!
- نساء الجيران؟!!
- بل نساء الحي بأكمله..!!
- لا تعبئي بكلامهن...
- إنهم طيبون، ولا يسألون سوى متى تنجبين؟!!
- قولي لهم عندما يشاء الله..
- لقد كرهت هذا السؤال.. إنهم لا يمللن!!
- لا بأس .. لا بد من قليلٍ من الصبر..
- نفد صبري ، فلم أسلم من سياطهن حتى بدأت أقوالهن تتشعب فـي طرح الحلول ..
هل تدري ماذا يقلنَ.....؟!!!!
المرأة الفلانية ذهبت إلى قبر أحد الأولياء ورزقت أولادًا..!!
وأخرى ذبحت على قبر وليٍ آخر وحملت بعد ذلك بشهر ...!!
وأخرى ذهبت إلى أحد المشعوذين وفك لها السحر وحملت..!!
وأخرى .... وأخرى ,... وأخرى.....!!!
تعبت من نصائحهن التي لم أطلبها منهن.
- أقدر مدى الألم الذي تعانينه..
- إنها دعواتٌ إلى الشرك....!!
- الجهلُ يفعلُ أكثر من هذا يا حبيبتي ...
- إنها عقائد راسخة فـي قلوبهن وعقولهن...!!
ماذا يفعل الدعاةٌ إذن...؟!!
- نخطئ يا حبيبتي عندما نحمل الدعاة كل شيء.. فماذا فعلنا نحن ..؟!! ألسنا مسؤولين عن ذلك أيضًا..
- نعم ..، لكنها تبعة ثقيلة ..!!
- حتى أنتِ تأثرتِ ..!! أنتِ التي أحببت فيها صلابتها ورجاحة عقلها..؟!!
- كثرتْ السهام وقلتْ الحيلة ..
- توكلي على الله واصدقي النية، عندها لن تُهزمي.. لن أقول لكِ ماذا تفعلين ..؟!!
أنتِ تعرفين هذا جيدًا.
تشعبت بهما الأحاديث ولم يحسا بمرور الوقت، ألتفتتْ إلى الساعةِ، وهي تحاول أن تنهض وهي تقول:
- يا لكَ من ساحر..!! التهمت الوقت بذكاء .. ، هيا إلى النوم..
قام إلى مكتبهِ وهو يرتب أوراقه المبعثرة، ونظر إليها بتثاؤب وهو يقول:
- سأكمل هذه الأوراق بسرعة وسألحق بكِ..
خرجت إلى غرفة النوم، وأكبَ على الأوراق يلملمها، ويكملُ نواقصها، حتى إذا أتم عمله،توجهَ خارجًا من المكتب وقبل أن يمد يده إلى المفاتيح ليطفئ النور، لمح لوحةً تتوسط مكتبه نظر إليها فـي خشوع وقلبه يخفق بشدة، ولسانه يلهج:
- { رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ} {خَيْرُ ٍالْوَارِثِينَ }.
|