إذن سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، هو النموذج الناصع الساطع للخلافة الإسلامية.
عظيم.. يبقى السؤال: وكيف صنع دولته؟
من مصدرين، الأول هو قيم وأوامر الإسلام، والثانى من شكل الدولة الفارسية ونظامها السياسى والإدارى.
كيف حدث ذلك؟
قراءة التاريخ تجيبنا عن هذا السؤال وتعيدنا إلى تأسيس الدولة التى انتقلت بالمسلمين من مجتمع المدينة إلى عصر الإمبراطورية.
من حيث شكل الحكم وتنظيمه وترتيبه وتأسيسه تبرز هنا ثقافة عمر واطلاعه، فقد كان عمر يطَّلع على نظام الحكم فى الممالك القديمة وقواعدها، وكان يختار منها ما يجدها مناسبة، فنجده فى الخَرَاج والعشور والديوان والمؤن وأوراق الحساب وجميع هذه التنظيمات قد عمل فيها بالقواعد والأصول القديمة المتبعة فى الشام وإيران، إلا أنه أصلح وحذف وأضاف فيها، فعندما أراد أن ينظم العراق أرسل الأوامر إلى حذيفة وعثمان أن أرسلا إلى اثنين من كبار دهاقى العراق فأتياه فى صحبة مترجم فاستفسر منهما عن طريقة تحديد الخَراج لدى ملوك العجم، ومع أن الجزية ترتبط ظاهريا بالناحية الدينية، فإنه راعى فى تشخيصها نفس الأصول والقواعد التى أقامها أنوشيروان فى حكومته، وعندما ذكر الطبرى موضوعات تنظيمات أنوشيروان، خصوصا الجزية قال «وهى الوضائع التى اقتدى بها عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس». وقد كتب العلامة ابن مسكويه فى هذا الموضوع أكثر وضوحا من ذلك وقد ألف كتابا فى التاريخ اسمه «تجارب الأمم» ذكر فيه عند الحديث عن تنظيمات عمر للدولة «وكان عمر يكثر الخلوة بقوم من الفرس يقرؤون عليه سياسات الملوك ولا سيما ملوك العجم والفضلاء وسيما أنوشيروان، فإنه كان معجبا بها كثير الاقتداء بها». ويصدق بيان ابن مسكويه ما كتبه المؤرخون عموما بأنه عندما أسلم هرمزان حاكم فارس أحضره عمر إلى المدينة وقرّبه إليه وكان يستمع إليه وكان يتشاور معه كثيرا فى ما يتعلق بأمور تنظيم الدولة والمدهش أن مؤامرة اغتيال عمر بن الخطاب برز فيها متهما الهرمزان نفسه.
هنا لازم نتوقف فعلا عند بناء، أو بالأدق تأسيس دولة المسلمين بصورتها النموذجية من حيث البناء والشكل ومن حيث الحاكم والجوهر، ليس ديكورا وشكليات فقط، بل وتطبيق وضمانات للتطبيق تبدأ بمجلس الشورى فى خلافة عمر. إن انعقاد مجلس الشورى كان من أصل الأصول فيها، فإذا كان يحدث أمر يحتاج إلى التدبير كان مجلس أصحاب الشورى ينعقد على الدوام ولا يمكن إنجاز أى أمر من دون شورى وأغلبية الآراء، وكان فى جماعة المسلمين آنذاك جماعتان تتقدمان سائر القوم وكان العرب جميعا معترفين بمكانتهما ومنزلتهما وهما: المهاجرون والأنصار.
هم إذن أعضاء مجلس الشورى، أما طريقة انعقاده، فكان اشتراك أعضاء كل من الجماعتين فى مجلس الشورى أمرا حتميا، وكان الأنصار ينقسمون بدورهم إلى قبيلتين هما: الأوس والخزرج، لذلك كان اشتراك هاتين القبيلتين أيضا فى مجلس الشورى أمرا ضروريا، ومع أننا لا نستطيع أن نذكر جميع أسماء أعضاء مجلس الشورى فإننا نعلم أن عثمان وعلى وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأُبَىّ بن كعب وزيد بن ثابت كانوا فى هذا المجلس، وكانت طريقة انعقاد المجلس هى أن ينادى مناد أولًّا أن «الصلاة جامعة» وعندما يجتمع الناس يذهب عمر إلى المسجد النبوى ويصلى ركعتين، وبعد الصلاة يصعد على المنبر ويلقى خطبة ثم يقدم الأمر الذى يحتاج إلى البحث.
تعتبر أحكام هذا المجلس كافية فى شؤون الحياة اليومية العادية لكن عندما كان يطرأ أمر مهم تعقد إذ ذاك جلسة عامة للمهاجرين والأنصار ويقرر باتفاق الجميع، فمثلا عندما أصر بعض الصحابة بعد فتح العراق والشام على أن تُقطَع هذه البلاد المفتوحة لأفراد الجيش وتوزع عليهم الأراضى كما كان متبعا أيام أبى بكر وهو ما رفضه وغيّره عمر، فقد انعقدت جلسة واسعة النطاق شارك فيها جميع المهاجرين والأنصار القدامى علاوة على عامة الناس، كان بينهم عشرة من كبار القادة، منهم خمسة أفراد من قبيلة الأوس وخمسة من قبيلة الخزرج واستمرت جلسات هذا المجلس عدة أيام، فكان الناس يلقون الخطب بجرأة وبحرية عامة. وننقل هنا بعض المقتطفات من خطب عمر التى ألقاها فى هذا المجلس، وذلك لتقدير سلطة خليفة المسلمين وحقيقة منصب الخليفة فى ذلك الوقت «إنى لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا فى أمانتى فى ما حملت من أموركم فإنى واحد كأحدكم، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذى هواى». تنتهى اجتماعات مجلس الشورى بأن البلاد المفتوحة ملك للمسلمين كافة ولا يتم توزيعها على جنود الجيش ورجاله كما كان متبعا فى خلافة أبى بكر الصديق (رضى الله عنه) ولم يكن هذا هو القرار أو القانون الوحيد الذى خالف فيه عمر سياسة أبى بكر، بل كان هناك ما هو أخطر وأهم!